NextFuture - القيمة العادلة في زمن التضخم وتأثيرها على النتائج الحقيقية للأعمال

في زمن تضخم يلتهم الأرقام التاريخية، هل تعكس قوائم شركتك قيمتها الحقيقية؟ في هذا المقال نناقش كيف تساعد القيمة العادلة في كشف النتائج الفعلية للأعمال.

 · 5 min read

القيمة العادلة في زمن التضخم وتأثيرها على النتائج الحقيقية للأعمال

من تجربة البنوك الأردنية… إلى فرصة الشركات الأردنية

القيمة العادلة في زمن التضخم وتأثيرها على النتائج الحقيقية للأعمال

خلال السنوات الماضية، اضطرت البنوك الأردنية إلى مواكبة التغيّرات في المعايير الدولية للمحاسبة، وخصوصًا المعايير التي تفرض القياس بالقيمة العادلة للأدوات المالية مثل IFRS 9 وIFRS 13. هذا التغيّر لم يكن مجرد تعديل شكلي في طريقة العرض، بل غيّر الطريقة التي نفهم بها أداء البنوك ومخاطرها وأصبح يعطينا صورة أقرب إلى الواقع.

اليوم، كثير من الأدوات المالية في البنوك الأردنية تُقاس بالقيمة العادلة، والبنوك تفصح عن ذلك بوضوح في قوائمها المالية. الفكرة الأساسية بسيطة:

بدل ما نعتمد فقط على رقم قديم (الكلفة التاريخية)، نحاول تقريب الأرقام من القيمة السوقية الحالية، حتى تعكس المؤشرات المالية الواقع قدر الإمكان.

من هنا يظهر سؤال طبيعي: لماذا لا نوسّع التجربة من البنوك إلى الشركات الأردنية بشكل عام؟
وماذا لو بدأت الشركات تقيس أصولها وأدواتها المالية بالقيمة العادلة، خاصة في ظل معدلات التضخم العالية جدًا التي نعيشها؟


أين المشكلة في الاعتماد على الكلفة التاريخية فقط؟

في أغلب الشركات، ما زالت السياسة الأساسية هي تسجيل الأصول والالتزامات على أساس التكلفة التاريخية، سواء كانت:

  • أصولًا ملموسة: أراضٍ، مبانٍ، آلات، معدات
  • أصولًا غير ملموسة: أنظمة وبرمجيات، علامات تجارية، حقوق امتياز
  • أدوات مالية: استثمارات في أسهم أو سندات، مساهمات طويلة الأجل، أدوات دين…

هذا الأسلوب، رغم بساطته، يخلق مشكلة كبيرة في بيئة فيها تضخم مرتفع:

  1. القيم الدفترية تصبح بعيدة عن الواقع
    أصل تم شراؤه قبل 8 أو 10 سنوات بسعر معيّن، يظل مسجلًا في الدفاتر قريبًا من نفس الكلفة، مع أن قيمته السوقية اليوم مختلفة تمامًا (أحيانًا أعلى بكثير، وأحيانًا أقل).
  2. المؤشرات المالية تصبح مضلّلة
    المؤشرات مثل العائد على الأصول (ROA) والعائد على حقوق الملكية (ROE) ونسب الربحية والهامش تُحتسب على أرقام دفترية قديمة، فلا تعكس الأداء الحقيقي ولا مخاطر الشركة الفعلية.
  3. التضخم يخلق أرباحًا “ورقية”
    عندما تكون الأصول مقوّمة بأرقام منخفضة تاريخية، تكون مصاريف الإهلاك قليلة، فيظهر الربح أعلى مما يجب. جزء من هذا الربح يكون ناتجًا عن التضخم وليس عن قوة حقيقية في النشاط التشغيلي.

الإطار القانوني في الأردن: هل القوانين تسمح بالقيمة العادلة؟

قبل الدعوة إلى تطبيق واسع للقيمة العادلة، يجب طرح سؤال أساسي: هل البيئة التشريعية في الأردن تسمح بذلك؟

أولًا – من الناحية المحاسبية:
الأردن ملتزم رسميًا بتطبيق المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS) في القطاعات الرئيسة، والبنوك مثال واضح؛ فهي تطبّق IFRS 9 وIFRS 13 وتقيس كثيرًا من أدواتها المالية بالقيمة العادلة وتفصح عن ذلك في القوائم المالية.

ثانيًا – من ناحية قانون ضريبة الدخل:
قانون ضريبة الدخل لا يضع نظامًا محاسبيًا مستقلًا يناقض IFRS، بل:

  • ينطلق من الربح المحاسبي كما يظهر في القوائم وفق المعايير المعتمدة.
  • ثم يجري عليه تعديلات ضريبية معيّنة (استبعاد أو إضافة بنود محددة).
  • لا يوجد ما يمنع الشركات من استخدام القيمة العادلة في قياس الأصول والأدوات المالية، لكن: ليس كل فرق تقييم بالقيمة العادلة يُعتبر مباشرة دخلًا خاضعًا للضريبة.

بعض فروق إعادة التقييم تُعامل بطرق خاصة، أو لا تُخضع للضريبة إلا عند تحققها فعليًا (مثل بيع الأصل أو الاستثمار). وهذا يعني عمليًا:

التشريعات الأردنية تفتح الباب أمام الشركات لاعتماد القيمة العادلة في القياس المحاسبي ضمن إطار IFRS، مع بقاء موضوع “ما هو خاضع للضريبة” مسألة تُنظّمها المواد والتعليمات الضريبية، وليس عائقًا أمام تطبيق القيمة العادلة في الدفاتر.

ماذا لو تبنّت الشركات الأردنية منهج القيمة العادلة؟

تخيّل أن شركة صناعية أو خدمية أو استثمارية في الأردن قررت، ضمن حدود المعايير والمسموح قانونًا، أن توسّع تطبيق القياس بالقيمة العادلة على:

  • الأصول الملموسة: إعادة تقييم العقارات والمباني والاستثمارات العقارية بشكل دوري يعكس الأسعار الحالية في السوق.
  • الأصول غير الملموسة: تقييم الأنظمة والبرمجيات، وقيمة العلامة التجارية، والحقوق والامتيازات وفق قدرتها الفعلية على توليد منافع مستقبلية.
  • الأدوات المالية: استثمارات في أسهم وسندات وصناديق وأدوات دين، تُقاس بالقيمة العادلة مع الإفصاح الواضح عن مكاسب وخسائر التقييم.

كيف سينعكس ذلك على النتائج والمعلومات المالية؟

  1. صورة أكثر صدقًا لقيمة الشركة
    تظهر حقوق الملكية وقيمة الأصول بشكل أقرب لواقع السوق، ويصبح الفرق بين “ما تملكه الشركة” و“ما عليها” مبنيًا على أرقام حيّة لا أرقام مجمّدة منذ سنوات.
  2. مؤشرات أداء أكثر دقة وشفافية
    عند استخدام القيم العادلة في القياس، قد تنخفض نسب العائد على الأصول أو على حقوق الملكية مقارنةً بما تظهره الكلفة التاريخية، لكن هذه النسب ستكون أقرب للحقيقة وتمنع تضخيم الأداء الظاهري.
  3. إدارة أفضل للمخاطر في ظل التضخم
    في أجواء تضخم مرتفع، الأصول النقدية والأصول المسجّلة بالكلفة التاريخية تتآكل قيمتها الفعلية مع الوقت. القياس بالقيمة العادلة يعطي الإدارة لوحة تحكم أدق: أي الأصول ارتفعت قيمتها؟ وأي الأصول فقدت جزءًا مهمًا من قوتها؟
  4. معلومات أكثر فائدة للمستثمرين والدائنين
    المستثمر أو البنك المموّل لا يهمه فقط “رقم الربح” في قائمة الدخل، بل أيضًا: حجم وقيمة الأصول الفعلية اليوم، ومقدار المخاطر المتخفية خلف أرقام تاريخية قديمة. القوائم المبنية على القيمة العادلة ترفع مستوى الثقة وتسهّل جذب استثمار وتمويل مبني على بيانات أوضح.

القيمة العادلة والتضخم: كشف النتائج الحقيقية للأعمال

في بيئة تضخم حاد، الأرقام التاريخية قد تعطي صورة مزيّنة عن الأرباح؛ فقد تظهر شركة على أنها تحقق أرباحًا جيدة، بينما الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من هذه الأرباح هو مجرد نتيجة لفقدان العملة لقيمتها، وليس لقوة التشغيل أو كفاءة الإدارة.

مع استخدام القيمة العادلة:

  • تظهر فروق التقييم (مكاسب أو خسائر) بشكل منفصل وشفاف.
  • يمكن التمييز بين الربح التشغيلي الحقيقي الناتج عن نشاط الشركة، وبين الربح أو الخسارة الناتجة عن تغيّر في أسعار الأصول والتضخم.

هنا تظهر النتائج الحقيقية للأعمال: هل الشركة تنمو فعليًا؟ أم أنها فقط تستفيد من تغيّر الأسعار دون قوة حقيقية في النشاط؟


خلاصة: لماذا على الشركات الأردنية أن تفكر بجدية في القيمة العادلة؟

  • البيئة الاقتصادية تغيّرت: تضخم، تقلب أسعار، تغيّر سريع في قيم الأصول، وهذا لا يناسب الاعتماد على الكلفة التاريخية وحدها.
  • تجربة البنوك الأردنية في تطبيق القيمة العادلة أثبتت أن الصورة تصبح أوضح، والمخاطر تظهر بشكل أسرع، وجودة المعلومات المالية تتحسن.
  • التشريعات الأردنية والمعايير الدولية تسمح بتطبيق القيمة العادلة ضمن إطار منضبط، مع معالجة ضريبية خاصة لفروق التقييم.
  • توسيع استخدام القيمة العادلة في الشركات غير البنكية يمكن أن يحسّن شفافية التقارير المالية، ويرفع جودة القرارات الإدارية والاستثمارية، ويكشف الأثر الحقيقي للتضخم على النتائج، بدل الاكتفاء بأرباح ظاهرية.

باختصار:
الانتقال من الكلفة التاريخية وحدها إلى منهج أوسع يشمل القيمة العادلة هو خطوة نحو “أرقام تحكي الحقيقة”، لا أرقام تعيش في الماضي.

فيديو توضيحي عن الموضوع


د.محمد راجح التلاوي

د. محمد راجح التلاوي، مستشار مالي وخبير في تطبيق أنظمة ERPNext وتحويل الأعمال رقميًا، مؤسس شركة NextFuture، ويعمل على تصميم حلول مالية وإدارية متكاملة للشركات في الأردن والمنطقة.

No comments yet.

إضافة تعليق
على Ctrl + Enter لإضافة تعليق

قالب footer